فصل: تفسير الآيات رقم (66- 69)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 48‏]‏

‏{‏فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ‏(‏45‏)‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ‏(‏46‏)‏ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏47‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏كأين‏}‏ هي كاف التشبيه دخلت على «أي» قال سيبويه وقد أوعبت القول في هذه اللفظة وقراءتها في سورة آل عمران في قوله ‏{‏وكأين من نبي قاتل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 146‏]‏، وهي لفظة إخبار وقد تجيء استفهاماً، وحكى الفراء «كأين ما لك»، وقرأت فرقة «أهلكناها»، وقرأت فرقة «أهلكتها»، بالإفراد والمراد أهل القرية و‏{‏ظالمة‏}‏ معناه بالكفر، و‏{‏خاوية‏}‏، معناه خالية ومنه خوى النجم اذا خلا من النور، ونحوه ساقطة ‏{‏على عروشها‏}‏، والعرش السقوف والمعنى أن السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها فهي على العروش، ‏{‏وبئر‏}‏، قيل هو معطوف على «العروش» وقيل على «القرية» وهو أصوب، وقرأت فرقة «وبيئر» بهمزة وسهلها الجمهور، وقرأت فرقة «مَعْطَلة» بفتح الميم وسكون العين وفتح الطاء وتخفيفها، والجمهور على «مُعَطّلة» بضم الميم وفتح العين وشد الطاء، و«المشيد» المبني بالشيد وهو الجص، وقيل «المشيد» المعلى بالآجر ونحو‏:‏ فمن الشيد قول عدي بن زيد‏:‏

شاده مرمراً وجلله كلساً *** فللطير في ذراه وكور

شاد بنى، بالشيد والأظهر في البيت أنه أراد علاه بالمرمر، وقالت فرقة في هذه الآية إن ‏{‏مشيد‏}‏ معناه معلى محصناً، وجملة معنى الآية تقتضي أنه كان كذلك قبل خرابه ثم وبخهم على الغفلة وترك الاعتبار بقوله، ‏{‏أفلم يسيروا في الأرض‏}‏ أي في البلاد فينظروا في أحوال الأمم المكذبة المعذبة، وهذه الآية تقتضي أن العقل في القلب وذلك هو الحق ولا ينكر أن للدماغ اتصالاً بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ، ‏{‏فتكون‏}‏، نصب بالفاء في جواب الاستفهام صرف الفعل من الجزم إلى النصب، وقوله ‏{‏فإنها لا تعمى الأبصار‏}‏، لفظ مبالغة كأنه قال‏:‏ ليس العمى عمى العين وإنما العمى حق العمى عمى القلب، ومعلوم أن الأبصار تعمى ولكن المقصد ما ذكرناه، وهذا كقوله عليه السلام، «ليس الشديد بالصرعة وليس المسكين بهذا الطواف» والضمير في ‏{‏فإنها‏}‏ للقصة ونحوها من التقدير وقوله ‏{‏التي في الصدور‏}‏، مبالغة كقوله ‏{‏يقولون بأفواههم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 167‏]‏ كما تقول‏:‏ نظرت إليه بعيني ونحو هذا، والضمير في ‏{‏يستعجلونك‏}‏ لقريش، وقوله ‏{‏ولن يخلف الله وعده‏}‏، وعد ووعيد وإخبار بأن كل شيء إلى وقت محدود، و«الوعد» هنا مقيد بالعذاب فلذلك، ورد في مكروه، وقوله ‏{‏وإن يوماً عند ربك كألف سنة‏}‏، قالت فرقة‏:‏ معناه ‏{‏وإن يوماً‏}‏ من أيام عذاب الله ‏{‏كألف سنة‏}‏ مما تعدون من هذه لطول العذاب وبؤسه، فكأن المعنى فما أجهل من يستعجل هذا وقالت فرقة معناه ‏{‏وإن يوماً‏}‏ عند الله لإحاطته فيه وعلمه وإنفاذه قدرته ‏{‏كألف سنة‏}‏ عندكم ع وهذا التأويل يقتضي أن عشرة آلاف سنة وإلى مالا نهاية له من العدد في حكم الألف ولكنهم قالوا ذكر الألف لأنه منتهى العدد كون تكرار فاقتصر عليه ع وهذا التأويل لا يناسب الآية، وقالت فرقة‏:‏ أن المعنى أن اليوم عند الله كألف سنة من هذا العدد، من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم

«إني لأرجو أن تؤخر أمتي نصف يوم»، وقوله «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم» ذلك خمسمائة سنة، ومنه قول ابن عباس‏:‏ مقدار الحساب يوم القيامة ألف سنة فكأن المعنى وإن طال الإمهال فإنه في بعض يوم من أيام الله وكرر قوله ‏{‏وكأين‏}‏ لأنه جلب معنى آخر ذكر أولاً القرى المهلكة دون إملاء بل بعقب التكذيب ثم ثنى بالمهملة لئلا يفرح هؤلاء بتأخير العذاب عنهم، وقرأت فرقة «تعدون» بالتاء، وقرأت فرقة «يعدون» بالياء على الغائب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 54‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏49‏)‏ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏50‏)‏ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏51‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏52‏)‏ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

المعنى ‏{‏قل‏}‏ يا محمد ‏{‏إنما أنا نذير‏}‏ عذاب ليس إلي أن أعجل عذاباً ولا أن أؤخره عن وقته، ثم قسم حالة المؤمنين والكافرين بأن للمؤمنين سترة ذنوبهم ورزقه إياهم في الجنة، و«الكريم» صفة نفي المذام، كما تقول ثوب كريم، وأن للكافرين المعاجزين عذاب ‏{‏الجحيم‏}‏ وهذا كله مما أمره أن يقوله، أي هذا معنى رسالتي لا ما تتمنون أنتم، وقوله ‏{‏سعوا‏}‏ معناه تحيلوا وكادوا من السعاية، و«الآيات»‏:‏ القرآن، أو كادوه بالتكذيب وسائر أقوالهم، وقرأت فرقة، «معاجزين»، ومعناه مغالبين كأنهم طلبوا عجز صاحب الآيات والآيات تقتضي تعجيزهم فصارت مفاعله، وعبر بعض الناس في تفسير ‏{‏معاجزين‏}‏ بظانين أنهم يفلتون الله وهذا تفسير خارج عن اللفظة، وقرأت فرقة «معجّزين» بغير ألف وبشد الجيم ومعناه معجزين الناس أي جاعلوهم بالتثبيط عجزة عن الإيمان وقال أبو علي‏:‏ «معجزين» ناسبين أصحاب النبي إلى العجز كما تقول فسّقت فلاناً وزنيته إذا نسبته إلى ذلك، وقوله ‏{‏وما أرسلنا‏}‏ الآية تسليه للنبي عليه السلام عن النازلة التي ألقى الشيطان فيها في أُمنية النبي عليه السلام، و‏{‏تمنى‏}‏ معناه المشهور أراد وأحب، وقالت فرقة هو معناها في الآية، والمراد أن الشيطان ألقى ألفاظه بسبب ما تمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقاربة قومه وكونهم متبعين له قالوا‏:‏ فلما تمنى رسول الله من ذلك ما لم يقضه الله وجد الشيطان السبيل، فحين قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم في مسجد مكة وقد حضر المسلمون والمشركون بلغ إلى قوله ‏{‏أفرايتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 20‏]‏ القى الشيطان تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترجى قال الكفار هذا محمد يذكر آلهتنا بما نريد وفرحوا بذلك، فلما انتهى إلى السجدة سجد الناس أجمعون إلا أمية بن حلف فإنه أخذ قبضة من تراب ثم رفعها إلى جبهته وقال يكفيني هذا، قال البخاري‏:‏ هو أمية بن خلف، وقال بعض الناس‏:‏ هو الوليد بن المغيرة، وقال بعض الناس‏:‏ هو أبو أحيحة سعيد بن العاصي ثم اتصل بمهاجرة الحبشة أن أهل مكة اتبعوا محمداً ففرحوا بذلك وأقبل بعضهم فوجد ألقية الشيطان قد نسخت وأهل مكة قد ارتبكوا وافتتنوا، وقالت فرقة ‏{‏تمنى‏}‏ معناه تلا والأمنية التلاوة ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تمنى كتاب الله أول ليلة *** وآخرها لاقى حمام المقادر

ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

«تمنى داود الزبور على رسل» *** وتأولوا قوله تعالى «إلا أماني» أي إلا تلاوة، وقالت هذه الفرقة في معنى سبب «إلقاء الشيطان» في تلاوة النبي عليه السلام ما تقدم آنفاً من ذكر الله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا الحديث الذي فيه هن الغرانقة وقع في كتب التفسير ونحوها ولم يدخله البخاري ولا مسلم ولا ذكره في علمي مصنف مشهور بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن «الشيطان ألقى» ولا يعينون هذا السبب ولا غيره، ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو الألفاظ مسموعة بها وقعت الفتنة، ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء فالذي في التفاسير وهو مشهور القول أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بتلك الألفاظ وأن الشطيان أوهمه ووسوس في قلبه حتى خرجت تلك الألفاظ على لسانه، ورووا أنه نزل إليه جبريل بعد ذلك فدارسه سورة النجم فلما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له جبريل لم آتك بهذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «افتريت على الله وقلت ما لم يقل لي» وجعل يتفجع ويغتم فنزلت هذه الآية ‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول‏}‏، ع وحدثني أبي رضي الله عنه أنه لقي بالمشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال‏:‏ هذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ وإنما الأمر أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 20‏]‏ وصوب صوته من صوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى التَبس الأمر على المشركين وقالوا محمد قرأها ع و‏{‏تمنى‏}‏ على هذا التأويل بمعنى تلا ولا بد، وقد روي نحو هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي ع و«الرسول» أخص من النبي وكثير من الأنبياء لم يرسلوا وكل رسول نبي، و«النسخ» في هذه الآية الإذهاب، كما تقول نسخت الشمس الظل وليس يرفع ما استقر من الحكم، ع وطرق الطبري وأشبع الإسناد في أن إلقاء الشيطان كان على لسان النبي عليه السلام واختلفت الروايات في الألفاظ ففي بعضها تلك الغرانقة، وفي بعضها تلك الغرانيق، وفي بعضها وإن شفاعتهن وفي بعضها منها الشفاعة ترتجى ع والغرانيق معناه السادة العظام الأقدار، ومنه قول الشاعر‏:‏

«أهلا بصائدة الغرانق» *** وقوله ‏{‏ليجعل ما يلقي الشيطان‏}‏ الآية، اللام في قوله ‏{‏ليجعل‏}‏ متعلقة بقوله ‏{‏فينسخ الله‏}‏ و«الفتنة» الامتحان والاختبار، و‏{‏الذين في قلوبهم مرض‏}‏ هم، عامة الكفار، والقاسية قلوبهم خواص منهم عتاة كأبي جهل والنضر وعقبة، و«الشقاق» البعد عن الخير، والضلال والكون في شق الصلاح، و‏{‏بعيد‏}‏، معناه أنه انتهى بهم وتعمق فرجعتهم منه غير مرجوة، و‏{‏الذين أوتوا العلم‏}‏ هم أصحاب محمد رسول الله عليه السلام، والضمير في ‏{‏أنه‏}‏ عائد على القرآن و«تخبت» معناه تتطامن وتخضع وهو مأخوذ من الخبث وهو المطمئن من الأرض، وقرأت فرقة «لهاد» بغير ياء بعد الدال، وقرأت فرقة‏:‏ «لهادي» بياء، وقرأت فرقة «لهادٍ» بالتنوين وترك الإضافة وهذه الآية معادلة لقوله، قبل ‏{‏وإن الظالمين لفي شقاق بعيد‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 62‏]‏

‏{‏وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ‏(‏55‏)‏ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏56‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏58‏)‏ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ‏(‏59‏)‏ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏60‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏61‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏62‏)‏‏}‏

«المرية» الشك، والضمير في قوله ‏{‏منه‏}‏ قالت فرقة هو عائد على القرآن، وقالت فرقة‏:‏ على محمد عليه السلام، وقالت فرقة‏:‏ على ما ‏{‏ألقى الشيطان‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏، وقال سعيد بن جبير أيضاً على سجود النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النجم، و‏{‏الساعة‏}‏، قالت فرقة‏:‏ أراد يوم القيامة، «واليوم العقيم»، يوم بدر، وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏الساعة‏}‏، موتهم أو قتلهم في الدنيا كيوم بدر ونحوه، و«اليوم العقيم»، يوم القيامة، ع وهذان القولان جيدان لأنهما أحرزا التقسيم ب ‏{‏أو‏}‏ ومن جعل ‏{‏الساعة‏}‏ و«اليوم العقيم»، يوم القيامة، فقد أفسد رتبة ‏{‏أو‏}‏، وسمي يوم القيامة أو يوم الاستئصال عقمياً لأنه لا ليلة بعده ولا يوم، والأيام كأنها نتائج لمجيء وأحد إثر واحد، فكأن أخر يوم قد عقم وهذه استعارة، وجملة هذه الآية توعد، وقوله ‏{‏الملك يومئذ لله‏}‏، السابق منه أنه في يوم القيامة من حيث لا ملك فيه لأحد من ملوك الدنيا، ويجوز أن يريد به يوم بدر ونحوه من حيث ينفذ فيه قضاء الله وحده ويبطل ما سواه ويمضي حكمه فيمن أراد تعذيبه، فأما من تأوله في يوم القيامة فاتسق له قوله ‏{‏فالذين آمنوا‏}‏ إلى قوله ‏{‏مهين‏}‏، ومن تأوله في يوم بدر ونحوه جعل قوله ‏{‏فالذين آمنوا‏}‏، ابتداء خبر عن حالهم المتركبة على حالهم في ذلك اليوم العقيم من الإيمان والكفر‏.‏ وقوله ‏{‏والذين هاجروا في سبيل الله‏}‏ الآية ابتداء معنى آخر وذلك أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس‏:‏ من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفة فنزلت هذه الآية مسوية بينهم في أن الله تعالى يرزق جميعهم ‏{‏رزقاً حسناً‏}‏ وليس هذا بقاض بتساويهم في الفضل، وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل، وقال بعض الناس‏:‏ المقتول والميت في سبيل الله شهيدان، ولكن للمقتول مزية ما أصابه في ذات الله، و«الرزق الحسن»، يحتمل أن يريد به رزق الشهداء عند ربهم في البرزخ ويحتمل أن يريد بعد يوم القيامة في الجنة، وقرأت فرقة، «مُدخلاً»، بضم الميم من أدخل فهو محمول على الفعل المذكور، وقرأت فرقة «مَدخلاً» بفتح الميم من دخل فهو محمول على فعل مقدر تقديره فيدخلون مدخلاً، وأسند الطبري عن سلامان بن عامر قال‏:‏ كان فضالة برودس أميراً على الأرباع فخرج بجنازتي رجلين أحدهما قتيل والآخر متوفى فرأى ميل الناس على جنازة القتيل، فقال‏:‏ أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل وتفضلونه فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اقرؤوا قول الله تعالى ‏{‏والذين هاجروا في سبيل الله‏}‏ الآية، إلى قوله ‏{‏حليم‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏، إلى قوله ‏{‏الكبير‏}‏ المعنى الأمر ذلك، ثم أخبر تعالى عمن عاقب من المؤمنين من ظلمه من الكفرة ووعد المبغي عليه بأنه ينصره وسمي الذنب في هذه الآية باسم العقوبة كما تسمى العقوبة كثيراً الذنب وهذا كله تجوز واتساع، وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين لقيهم كفار في أشهر الحرم فأبى المؤمنون من قتالهم وأبى المشركون إلا القتال فلما اقتتلوا جد المؤمنون ونصرهم الله، فنزلت هذه الاية فيهم، وقوله ‏{‏ذلك بأن الله يولج الليل في النهار‏}‏، معناها نصر الله أولياءه ومن بغي عليه بأنه القادر على العظائم الذي لا تضاهى قدرته فأوجزت العبارة بأن أشار ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى النصر وعبر عن القدرة بتفصيلها فذكر منها مثلاً لا يدعى لغير الله تعالى، وجعل تقصير الليل وزيادة النهار وعكسهما إيلاجاً تجوزاً وتشبيهاً، وقوله ‏{‏ذلك بأن الله هو الحق‏}‏ معناه نحو ما ذكرناه، وقرأت فرقة «وأن» بفتح الألف، وقرأت فرقة «وإن» بكسر الألف، وقرأت فرقة «تدعون» بالتاء من فوق، وقرأت فرقة «يدعون» والإشارة بما يدعى من دونه، قالت فرقة هي إلى الشيطان، وقالت فرقة هي إلى الأصنام والعموم هنا حسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 65‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏63‏)‏ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏64‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏ألم تر‏}‏ تنبيه وبعده خبر ‏{‏أن الله‏}‏ تعالى ‏{‏أنزل من السماء ماء‏}‏ فظلت ‏{‏الأرض‏}‏ تخضرعنه، وقوله ‏{‏فتصبح الأرض‏}‏ بمنزلة قوله فتضحي أو فتصير عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة، ورفع قوله ‏{‏فتصبحُ‏}‏ من حيث الآية خبر والفاء عاطفة وليست بجواب لأن كونها جواباً لقوله ‏{‏ألم تر‏}‏ فاسد المعنى، وروي عن عكرمة أنه قال‏:‏ هذا لا يكون إلا بمكة وتهامة ومعنى هذا أنه أخذ قوله ‏{‏فتصبح‏}‏ مقصوداً به صباح ليلة المطر وذهب إلى أن ذلك الاخضرار في سائر البلاد يتأخر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد شاهدت هذا في السوس الأقصى نزل المطر بعد قحط وأصبحت تلك الأرض التي تسقيها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف دقيق، وقرأ الجمهور «مخضرة» و«اللطيف» المحكم للأمور برفق، واللام في ‏{‏له ما في السماوات‏}‏ لام الملك والمعنى الذي لا حاجة به إلى شيء هكذا هو على الإطلاق، وقوله ‏{‏سخر لكم ما في الأرض‏}‏ يريد من الحيوان والمعادن وسائر المرافق، وقرأ الجمهور «والفلكَ» بالنصب، وذلك يحتمل وجهين من الإعراب أحدهما أن يكون عطفاً على ‏{‏ما‏}‏ بتقدير وسخر الفلك، والآخر أن يكون عطفاً على المكتوبة بتقدير وإن الفلك وقوله، ‏{‏تجري‏}‏ على الإعراب الأول‏.‏ في موضع الحال، وعلى الإعراب الثاني في موضع الخبر‏.‏ وقرأت فرقة «والفلكُ» بالرفع فتجري خبر على هذه القراءة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏بإذنه‏}‏ يحتمل أن يريد يوم القيامة كأن طيّ السماء ونقض هذه الهيئة كوقوعها، ويحتمل أن يريد بذلك الوعيد لهم في أنه إن أذن في سقوط لكسفها عليهم سقطت، ويحتمل أن يعود قوله ‏{‏إلا بإذنه‏}‏ على «الإمساك» لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه، فكأنه أراد إلا بإذنه فيه يمسكها، وباقي الاية بين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 69‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ‏(‏66‏)‏ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ‏(‏67‏)‏ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏68‏)‏ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

الإحياء والإماتة في هذه الآيات ثلاث مراتب وسقط منها الموت الأول الذي نص عليه في غيرها إلا أنه بالمعنى في هذه، و«المنسك» المصدر فهو بمعنى العبادة والشرعة، وهو أيضاً موضع النسك، وقرأت فرقة بفتح السين وفرقة بكسرها وقد تقدم القول فيه في هذه السورة، وقوله ‏{‏هم ناسكوه‏}‏ يعطي أن المنسك المصدر ولو كان الموضع لقيل هم ناسكون فيه، وروت فرقة أن هذه الآية نزلت بسبب جدال الكفار في أمر الذبائح، وقولهم للمؤمنين تأكلون ما ذبحتم فهو من قتلكم ولا تأكلون ما قتل الله من الميتة فنزلت الآية بسبب هذه المنازعة، وقوله ‏{‏فلا ينازعنك‏}‏ هذه البينة من الفعل والنهي تحتمل معنى التخويف، وتحتمل معنى احتقار الفاعل وأنه أقل من أَن يفاعل وهذا هو المعنى في هذه الآية، وقال أبو إسحاق‏:‏ المعنى فلا تنازعهم فينازعوك ع وهذا التقدير الذي قدر إنما يحسن مع معنى التخويف، وإنما يحسن أن يقدر هنا فلا يد لهم بمنازعتك، فالنهي إنما يراد به معنى من غير اللفظ، كما يراد في قولهم لا أرينك ها هنا أي لا تكن ها هنا، وقرأت فرقة «فلا ينزعنَّك»، وقوله ‏{‏في الأمر‏}‏ معناه على التأويل أَن المنسك الشرعة لا ينازعنك في الدين والكتاب ونحوه، وعلى أَن المنسك موضع الذبح على ما روت الفرقة المذكورة من أن الآية نزلت في الذبائح يكون الأمر الذبح، و«الهدى» في هذه الآية الإرشاد، وقوله ‏{‏وإن جادلوك‏}‏ الآية موادعة محضة نسختها آية السيف، وباقي الآية وعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 72‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏70‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏71‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏72‏)‏‏}‏

لما أخبر تعالى في الآية قبلها أنه يحكم بين الناس يوم القيامة فيما اختلفوا فيه أتبع ذلك الخير بأن عنده علم كل شيء ليقع الحكم في معلوم، فخرجت العبارة على طريق التنبيه على علم الله تعالى وإحاطته و‏{‏إن ذلك‏}‏ كله ‏{‏في كتاب‏}‏ وهو اللوح المحفوظ وقوله‏:‏ ‏{‏إن ذلك على الله يسير‏}‏، يحتمل أَن تكون الإشارة إلى كون ذلك في كتاب وكونه معلوماً، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى الحكم في الاختلاف‏.‏ ثم ذكر تعالى على جهة التوبيخ فعل الكفرة في أنهم ‏{‏يعبدون‏}‏ من الأصنام ‏{‏من دون الله ما لم ينزل‏}‏ الله فيه حجة ولا برهاناً‏.‏ و«السلطان»، الحجة حيث وقع في القرآن، وقوله ‏{‏وما للظالمين من نصير‏}‏، توعد، والضمير في ‏{‏عليهم‏}‏ عائد على كفار قريش، والمعنى أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن من النبي عليه السلام أو من أحد من أصحابه وسمعوا ما فيه من رفض آلهتهم والدعاء إلى التوحيد عرفت المساءة في وجوههم والمنكر من معتقدهم وعداوتهم وأنهم يريدون ويتسرعون إلى السطوة بالتالي، والمعنى أنهم ‏{‏يكادون يسطون‏}‏ دهرهم أجمع، وأما في الشاذ من الأوقات فقد سطا بالتالين نحو ما فعل بعبد الله بن مسعود وبالنبي عليه السلام حين أغاثه، وحل الأمر أبو بكر، وبعمر حين أجاره العاصي بن وائل وأبي ذر وغير ذلك، والسطو إيقاع بمباطشة أو أمر بها، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم على جهة الوعيد والتقريع ‏{‏أأنبئكم‏}‏ أي أخبركم ‏{‏بشر من ذلكم‏}‏ والإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى السطو ثم ابتدأ ينبئ كأن قائلاً قال له وما هو قال ‏{‏النار‏}‏ أي نار جهنم، وقوله ‏{‏وعدها الله الذين كفروا‏}‏، يحتمل أن يكون أراد أن الله تعالى وعدهم بالنار فيكون الوعد في الشر ونحو ذلك لما نص عليه، ولم يجئ مطلقاً، ويحتمل أن يكون أراد أن الله تعالى وعد النار بأن يطعمها الكفار فيكون الوعد على بابه إذ الذي يقتضيه تسرعها إلى الكفار وقولها هل من مزيد ونحوه أن ذلك من مسارها، و‏{‏المصير‏}‏ مفعل من صار إذا تحول من حال إلى حال ع، ويقتضي كلام الطبري في هذه الآية أن الإشارة ب ‏{‏بذلكم‏}‏ هي إلى أصحاب محمد التالين ثم قال‏:‏ ألا أخبركم بأكره إليكم من هؤلاء أنتم الذين وعدتم النار وأسند نحو هذا القول إلى قائل لم يسمه وهذا كله ضعيف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 74‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ‏(‏73‏)‏ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏74‏)‏‏}‏

الخطاب بقوله ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ قيل هو خطاب يعم العالم، وقيل هو خطاب للمؤمنين حينئذ الذين أراد الله تعالى أن يبين عندهم خطأ الكافرين ولا شك أن المخاطب هم ولكنه خطاب يعم جميع الناس‏.‏

متى نظره أحد في عبادة الأوثان توجه له الخطاب واختلف المتأولون في فاعل، ‏{‏ضرب‏}‏، من هو فقالت فرقة‏:‏ المعنى ‏{‏ضرب‏}‏ أهل الكفر مثلاً لله أصنامهم وأوثانهم فاستمعوا أنتم أيها الناس لأمر هذه الآلهة، وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏ضرب‏}‏ الله مثلاً لهذه الأصنام وهو كذا وكذا، فالمثال والمثل في القول الأول هي الأصنام والذي جعل له المثال الله تعالى، والمثال في التأويل الثاني هو في الذباب وأمره والذي جعل له هي الأصنام، ومعنى ‏{‏ضرب‏}‏ أثبت وألزم وهذا كقوله ‏{‏ضربت عليهم الذلة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 112‏]‏، وكقولك ضربت الجزية، وضرب البعث، ويحتمل أن يكون «ضرب المثل» من الضريب الذي هو المثل ومن قولك هذا ضرب هذا فكأنه قال مثل مثل، وقرأت فرقة «يدعون» بالياء من تحت والضمير للكفار، وقرأت فرقة «يُدعون» بالياء على ما لم يسم فاعله والضمير للأصنام، وبدأ تعالى ينفي الخلق والاختراع عنهم من حيث هي صفة ثابتة له مختصة به، فكأنه قال ليس لهم صفتي ثم ثنى بالأمر الذي بلغ بهم غاية التعجيز، وذكر تعالى أمر سلب الذباب لأنه كان كثيراً محسوساً عند العرب، وذلك أنهم كانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك وكانوا متألمين من هذه الجهة فجعلت مثلاً، و«الذباب» جمعه أذبة في القليل وذبان في الكثير كغراب وأغربة وغربان ولا يقال ذبابات إلا في الديون لا في الحيوان، واختلف المتأولون في قوله تعالى، ‏{‏ضعف الطالب والمطلوب‏}‏، فقالت فرقة أراد ب ‏{‏الطالب‏}‏ الأصنام وب ‏{‏المطلوب‏}‏ الذباب، أي أنهم ينبغي أن يكونوا طالبين لما يسلب من طيبهم على معهود الأنفة من الحيوان، وقالت فرقة معناه ضعف الكفار في طلبهم الصواب والفضيلة من جهة الأصنام، وضعف الأصنام في إعطاء ذلك وإنالته ع ويحتمل أن يريد ‏{‏ضعف الطالب‏}‏ وهو الذباب في استلابه ما على الأصنام وضعف الأصنام في أن لا منفعة لهم وعلى كل قول، فدل ضعف الذباب الذي هو محسوس مجمع عليه وضعف الأصنام عن هذا المجمع على ضعفه على أن الأصنام في أحط رتبة واخس منزلة، وقوله ‏{‏ما قدروا الله حق قدره‏}‏، خطاب للناس المذكورين، والضمير في ‏{‏قدروا‏}‏ للكفار والمعنى ماوفوه حقه من التعظيم والتوحيد ثم أخبر بقوة الله وعزته وهما صفتان مناقضتان لعجز الأصنام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 77‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏75‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏76‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

روي أن هذه الآية إلى قوله ‏{‏الأمور‏}‏ نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة أأنزل عليه الذكر من بيننا الآية فأخبر ‏{‏الله‏}‏ تعالى أنه ‏{‏يصطفي‏}‏ أي يختار ‏{‏من الملائكة رسلاً‏}‏ إلى الأنبياء وغيرهم حسبما ورد في الأحاديث ‏{‏ومن الناس‏}‏ وهم الأنبياء المبعثون لإصلاح الخلق الذين اجتمعت لهم النبوءة والرسالة‏.‏ وقوله ‏{‏ما بين أيديهم وما خلفهم‏}‏ عبارة عن إحاطة بهم وحقيقتها ما قبلهم من الحوادث وما بعدهم، و‏{‏الأمور‏}‏، جمع أمر ليس يراد به المصدر ثم أمر الله تعالى المؤمنين بعبادته وخص «الركوع والسجود» بالذكر تشريفاً للصلاة، واختلف الناس هل في هذه الآية سجدة‏؟‏ ومذهب مالك أنه لا يسجد هنا، وقوله ‏{‏وافعلوا الخير‏}‏، ندب، فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا الموضع، وقوله ‏{‏لعلكم‏}‏ ترجٍّ في حق المؤمنين كقوله ‏{‏لعله يتذكر أو يخشى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏ و«الفلاح» في هذه الآية نيل البغية وبلوغ الأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏78‏)‏‏}‏

قالت فرقة‏:‏ هذه آية أمر الله تعالى فيها الجهاد في سبيله وهو قتال الكفار، وقالت فرقة‏:‏ بل هي أعم من هذا وهو جهاد النفس وجهاد الكافرين وجهاد الظلمة وغير ذلك، أمر الله تعالى عباده بأن يفعلوا ذلك في ذات الله حق فعله ع والعموم حسن وبين أن عرف اللفظة تقتضي القتال في سبيل الله، وقال هبة الله وغيره‏:‏ إن قوله ‏{‏حق جهاده‏}‏ وقوله في الأخرى، ‏{‏حق تقاته‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ منسوخ بالتخفيف إلى الاستطاعة ع ومعنى الاستطاعة في هذه الأوامر هو المراد من أول الأمر فلم يستقر تكليف بلوغ الغاية شرعاً ثابتاً فيقال إنه نسخ بالتخفيف، وإطلاقهم النسخ في هذا غير محدق، و‏{‏اجتباكم‏}‏ معناه تخيركم، وقوله ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏ معناه من تضييق يريد في شرعة الملة، وذلك أنها حنيفية سمحة ليست كشدائد بني إسرائيل وغيرهم بل فيها التوبة والكفارات والرخص ونحو هذا مما كثر عده، والحرجة الشجر الملتف المتضايق، ورفع الحرج لجمهور هذه الأمة ولمن استقام على منهاج الشرع، وأما السلابة والسرّاق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين، وليس في الشرع أعظم حرجاً من إلزام ثبوت رجل لاثنين في سبيل الله ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج، وقوله ‏{‏ملة‏}‏، نصب بفعل مضمر تقديره بل جعلها أو نحوه من أفعال الإغراء، وقال الفراء هو نصب على تقدير حذف الكاف كأنه قال كلمة وقيل هو كما ينصب المصدر، وقوله ‏{‏هو سماكم‏}‏، قال ابن زيد الضمير ل ‏{‏إبراهيم‏}‏ والإشارة إلى قوله ‏{‏ومن ذريتنا أمة مسلمة لك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد الضمير لله تعالى، و‏{‏من قبل‏}‏، معناه في الكتب القديمة ‏{‏وفي هذا‏}‏، في القرآن، وهذه اللفظة تضعف قول من قال‏:‏ الضمير ل ‏{‏إبراهيم‏}‏ ولا يتوجه إلا على تقدير محذوف من الكلام مستأنف، وقوله ‏{‏ليكون الرسول شهيداً عليكم‏}‏ أي بالتبليغ، وقوله ‏{‏وتكونوا شهداء على الناس‏}‏ أي بتبليغ رسلهم إليهم على ما أخبركم نبيكم، وأسند الطبري إلى قتادة أنه قال‏:‏ أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلا نبي، كان يقول للنبي أنت شهيد على أمتك وقيل لهذه ‏{‏وتكونوا شهداء على الناس‏}‏، وكان يقال للنبي ليس عليك حرج وقيل لهذه ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏، وكان يقول للنبي سل تعط وقيل لهذه ‏{‏ادعوني استجب لكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ أمر تعالى ب ‏{‏الصلاة‏}‏ المفروضة أن تقام ويدام عليها بجميع حدودها، وب ‏{‏الزكاة‏}‏ أن تؤدي كما أنعم عليكم، فافعلوا كذا ثم أمر ب «الاعتصام بالله» أي بالتعلق به والخلوص له وطلب النجاة منه، ورفض التوكل على سواء، و‏{‏المولى‏}‏ في هذه الآية الذي يليكم نصره وحفظه وباقي الآية بين‏.‏

سورة المؤمنون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ‏(‏4‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏5‏)‏ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏6‏)‏ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

أخبر الله تعالى عن فلاح المؤمنين وأنهم نالوا البغية وأحرزوا البقاء الدائم، وروي عن كعب الأحبار أن الله تعالى لما خلق جنة عدن قال لها تكلمي فقالت ‏{‏قد أفلح المؤمنون‏}‏، وروي عن مجاهد أن الله تعالى لما خلق الجنة وأتقن حسنها قال ‏{‏قد أفلح المؤمنون‏}‏، وقرأ طلحة بن مصرف «قد أفلحُ المؤمنون» بضم الحاء يريد قد أفلحوا، وهي قراءة مردوة، وروي عنه «قد أُفلِح» بضم الهمزة وكسر اللام، ثم وصف تعالى هؤلاء المفلحين فقال ‏{‏الذين هم في صلاتهم خاشعون‏}‏ والخشوع التطامن وسكون الأعضاء والوقار، وهذا إنما يظهر ممن في قلبه خوف واستكانة، وروي عن بعض العلماء أنه رأى رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال‏:‏ لو خشع هذا خشعت جوارحه، وروي أن سبب هذه الآية أن المسلمين كانوا يلتفتون في صلاتهم يمنة ويسرة فنزلت هذه الآية وأمروا أن يكون بصر المصلي حذاء قبلته أو بين يديه، وفي الحرم إلى الكعبة، وروي عن ابن سيرين وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلتفت في صلاته إلى السماء فنزلت الآية في ذلك، و‏{‏اللغو‏}‏ سقط القول وهذا يعم جميع ما لا خير فيه ويجمع آداب الشرع، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكأن الآية فيها موادعة، وقوله ‏{‏والذين هم للزكاة فاعلون‏}‏ ذهب الطبري وغيره إلى أنها الزكاة المفروضة في الأموال، وهذا بين، ويحتمل اللفظ أن يريد ب «الزكاة» الفضائل كأنه أراد الأزكى من كل فعل، كما قال تعالى ‏{‏خيراً منه زكاة وأقرب رحماً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 81‏]‏ وقوله ‏{‏والذين هم لفروجهم حافظون‏}‏ صفة العفة، وقوله ‏{‏إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم‏}‏ الآية، يقتضي تحريم الزنا والاستمناء ومواقعة البهائم وكل ذلك في قوله، ‏{‏وراء ذلك‏}‏ ويريد وراء هذا الحد الذي حد، ومعنى ‏{‏ما ملكت أيمانهم‏}‏ من النساء ولما كان ‏{‏حافظون‏}‏ بمعنى محجزون حسن استعمال ‏{‏على‏}‏، و«العادي» الظالم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 11‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏8‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏9‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قرأ جمهور الناس «لأماناتهم» بالجمع، وقرأ ابن كثير «لأمانتهم» بالإفراد، والأمانة العهد تجمع كل ما تحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولاً وفعلاً، وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك، ورعاية ذلك حفظه والقيام به، والأمانة أعم من العهد، إذ كل عهد فهو أمانة فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد، وقد تعن أمانة فيما لم يعهد فيه تقدم، وهذا إذا أخذناهما بنسبتهما إلى العبد، فإن أخذناهما من حيث هما عهد الله إلى عباده وأمانته التي حملهم كانا في رتبة واحدة وقرأ الجمهور «صلواتهم»، وقرأ حمزة والكسائي «صلاتهم» بالإفراد، وهذا الإفراد اسم جنس فهو في معنى الجمع، والمحافظة على الصلاة رقب أوقاتها والمبادرة إلى وقت الفضل فيها، و‏{‏الوارثون‏}‏ يريد الجنة، وروي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكناً في الجنة ومسكناً في النار، فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم ويرثون منازل الكفار ويحصل الكفار في مساكنهم في النار، ويحتمل أَن يسمي تعالى الحصول على الجنة وراثة من حيث حصلوها دون غيرهم، فهو اسم مستعار على الوجهين، و‏{‏الفردوس‏}‏، مدينة الجنة وهي جنة الأعناب، واللفظة، فيما قال مجاهد، رومية عربت، والعرب تقول للكروم فراديس، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم حارثة‏:‏ «إنها جنان كثيرة وإن ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ‏(‏12‏)‏ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏13‏)‏ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

هذا ابتداء كلام والواو في أوله عاطفة جملة الكلام على جملة وإن تباينت في المعاني، واختلف المفسرون في قوله ‏{‏الإنسان‏}‏ فقال قتادة وغيره‏:‏ أراد آدم عليه السلام لأنه استل من الطين ع ويجيء الضمير في قوله ‏{‏ثم جعلناه‏}‏ عائداً على ابن آدم وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر وأن المعنى لا يصلح إلا له، نظير ذلك ‏{‏حتى توارت بالحجاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏ وغيره، وقال ابن عباس وغيره المراد بقوله ‏{‏الإنسان‏}‏ ابن آدم، و‏{‏سلالة من طين‏}‏ صفوة الماء ع وهذا على أنه اسم الجنس ويترتب فيه أَنه سلالة من حيث كان الكل عن آدم أو عن أبويه المتغذيين بما يكون من الماء والطين وذلك السبع الذي جعل الله رزق ابن آدم، وسيجيء قول ابن عباس فيها إن شاء الله، وعلى هذا يجيء قول ابن عباس‏:‏ إن «السلالة» هي صفوة الماء يعني المني، وقال مجاهد ‏{‏سلالة من طين‏}‏‏:‏ مني آدم ع وهذا نبيل إذ آدم طين وذريته من سلالة، وما يكون عن الشيء فهو سلالته، وتختلف وجوه ذلك الكون فمنه قولهم للخمر سلالة لأنها سلالة العنب ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

إذا أنتجت منها المهار تشابهت *** على العود إلا بالأنوف سلائله

ومن اللفظ قول هند بنت النعمان بن بشير‏:‏

سليلة أفراس تجللها بغل *** ومنه قول الآخر ‏[‏حسان بن ثابت‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فجاءت به عضب الأديم غضنفراً *** سلالة فرج كان غير حصين

وهذه الفرقة يترتب مع قولها عود الضمير في «جعلنا وأنشأنا» و‏{‏النطفة‏}‏ تقع في اللغة على قليل الماء وعلى كثيره، وهي هنا لمني ابن آدم، و«القرار المكين» من المرأة هو موضع الولد، و«المكين» المتمكن فكأن القرار هو المتمكن في الرحم، و‏{‏العلقة‏}‏ الدم الغريض، و‏{‏المضغة‏}‏ بضعة اللحم قدر ما يمضغ، وقرأ الجمهور ‏{‏عظاماً‏}‏ في الموضعين، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «عظماً» بالإفراد في الموضعين، وقرأ السلمي وقتادة والأعرج والأعمش بالإفراد أولاً وبالجمع في الثاني، وقرأ مجاهد وأبو رجاء وإبراهيم بن أَبي بكير بعكس ذلك، وفي قراءة ابن مسعود، «ثم جعلنا المضغة عظاماً وعصباً فكسوناه لحماً»، واختلف الناس في «الخلق الآخر»، فقال ابن عباس والشعبي وأَبو العالية والضحاك وابن زيد‏:‏ هو نفخ الروح فيه، وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ خروجه إلى الدنيا، وقال قتادة عن فرقة‏:‏ نبات شعره، وقال مجاهد‏:‏ كمال شبابه وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ تصرفه في أمور الدنيا‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وهذا التخصيص كله لا وجه له وإنما هو عام في هذا وغيره من وجوه من النطق والإدراك وحسن المحاولة هو بها ‏{‏آخر‏}‏، وأول رتبة من كونه ‏{‏آخر‏}‏ هي نفخ الروح فيه، والطرف الآخر من كونه ‏{‏آخر‏}‏ تحصيله المعقولات، و«تبارك» مطاوع بارك فكأنها بمنزلة تعالى وتقدس من معنى البركة، وهذه الآية يروى أن عمر بن الخطاب لما سمع صدر الآية إلى قوله ‏{‏آخر‏}‏ قال ‏{‏فتبارك الله أَحسن الخالقين‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت، ويروى أن قائل ذلك معاذ بن جبل، ويروى أَن قائل ذلك هو عبدالله بن أَبي سرح وبهذا السبب ارتد، وقال أنا آتي بمثل ما يأتي به محمد وفيه نزلت‏:‏

‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليَّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 93‏]‏، الآية وقوله ‏{‏أحسن الخالقين‏}‏ معناه الصانعين يقال لمن صنع شيئاً خلقه ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

ولأنت تفري ما خلقت *** وبعض القوم يخلق ثم لا يفري

وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس، فقال ابن جريج‏:‏ إنما قال ‏{‏الخالقين‏}‏ لأَنه تعالى قد أذن لعيسى في أَن يخلق، واضطرب بعضهم في ذلك، ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع وإنما هي منفية الاختراع والإيجاد من العدم، ومن هذه الآية قول ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا الله أعلم، فقال عمر‏:‏ ما تقول يا ابن عباس، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الله خلق السماوات سبعاً، والأرضين سبعاً، وخلق ابن آدم من سبع، وجعل رزقه في سبع، فأراها في ليلة سبع وعشرين، فقال‏:‏ آعجزكم أن تأتوا بمثل ما أتى به هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه وهذا الحديث بطوله في مسند ابن أَبي شيبة فأراد ابن عباس بقوله خلق ابن آدم من سبع هذه الآية، وبقوله جعل رزقه في سبع قوله ‏{‏فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأبّا‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 27‏]‏ الآية السبع منها لابن آدم والأب للأنعام والقضب يأكله ابن آدم ويسمن منه النساء هذا قول، وقيل القضب البقول لأنها تقضب فهي رزق ابن آدم، وقيل القضب والأب للأنعام والستة الباقية لابن آدم والسابعة هي الأنعام إذ هي من أعظم رزق ابن آدم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 20‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ‏(‏15‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ‏(‏16‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ‏(‏17‏)‏ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما ذكر من هذه الأحوال، وقرأ ابن أَبي عبلة «لمايتون» بالألف، و‏{‏تبعثون‏}‏ معناه من قبوركم أَحياء، وهذا خبر بالبعث والنشور، و«الطريق» كل ما كان طبقات بعضه فوق بعض، ومنه طارقت نعلي، ويريد ب «السبع الطرائق» السماوات، ويجوز أن تكون «الطرائق» بمعنى المبسوطات من طرقت الشيء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنا عن الخلق غافلين‏}‏ نفي عام في إتقان خلقهم وعن مصالحهم وعن أَعمالهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ماء بقدر‏}‏، قال بعض العلماء أراد المطر، وقال بعضهم إنما أراد الأنهار الأربعة سيحان وجيحان والفرات والنيل، والصواب أن هذا كله داخل تحت الماء الذي أنزله الله تعالى، وقال مجاهد‏:‏ ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء ويمكن أَن يقيد هذا بالعذب وإلا فالأجاج ثابت في الأرض مع القحط والعذب يقل مع القحط، وأيضاً فالأحاديث تقتضي الماء الذي كان قبل خلق السماوات والأرض، ولا محالة أَن الله قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء ماء، وقوله، ‏{‏بقدر‏}‏، أي على مقدار مصلح لأَنه لو كثر أهلك، ‏{‏فأنشأنا‏}‏، معناه فأوجدنا وخلقنا، وذكر تعالى «النخيل والأعناب» لأَنها ثمرة الحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما قاله الطبري، ولأنهما أيضاً أشرف الثمار فذكرها مثالاً تشريفاً لها وتنبيهاً عليها، وقوله ‏{‏لكم فيها‏}‏ يحتمل أن يعود الضمير على الجنات فيريد حينئذ جميع أنواع الفاكهة، ويحتمل أن يعود على النخيل والأعناب خاصة، إذ فيها مراتب وأنواع والأول أعم لسائر الثمرات، وقوله ‏{‏وشجرة‏}‏ عطف على قوله ‏{‏جنات‏}‏ ويريد بها الزيتونة وهي كثيرة في ‏{‏طور سيناء‏}‏ من أرض الشام وهو الجبل الذي كلم فيه موسى عليه السلام قاله ابن عباس وغيره، و«الطور» الجبل في كلام العرب وقيل هو مما عرب من كلام العجم واختلف في ‏{‏سيناء‏}‏ فقال قتادة معناه الحسن ويلزم على هذا التأويل أَن ينون «الطور» وقال مجاهد معناه مبارك، وقال معمر عن فرقة ذو شجر ع ويلزمهم أن ينون «الطور»، وقال الجمهور هو اسم الجبل كما تقول جبل أحد، و‏{‏سيناء‏}‏، اسم مضاف إليه الجبل، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير «سِيناء» بكسر السين، وقرأ الباقون وعمر بن الخطاب «سَيناء» بفتح السين، وكلهم بالمد، فعلى فتح السين لا ينصرف الاسم بوجه، وعلى كسر السين فالهمزة كهمزة حرباء ولم يصرف في هذه الآية لأَنه جعل اسم بقعة أو أَرض، وقرأ الجمهور، «تنبُت» بفتح التاء وضم الباء فالتقدير تنبت ومعها الدهن كما تقول خرج زيد بسلاحه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «تُنبت» بضم التاء واختلف في التقدير على هذه القراءة، فقالت فرقة الباء زائدة وهذا كقوله

‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏ وهذا المثال عندي معترض وإن كان أبو علي ذكره وكقول الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

نحن بني جعدة أرباب الفلج *** نضرب بالبيض ونرجو بالفرج

ونحو هذا‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ التقدير «تنبت» جناها ومعه الدهن فالمفعول محذوف قاله أبو علي الفارسي أيضاً وقد قيل نبت وأنبت بمعنى فيكون الفعل كما مضى في قراءة الجمهور والأصمعي ينكر البيت ويتهم قصيدة زهير التي فيها أَنبت البقل، وقرأ الزهري والحسن والأعرج «تُنبَتُ» برفع التاء ونصب الباء قال أَبو الفتح هي باء الحال أي تنبت ومعها دهنها وفي قراءة ابن مسعود تخرج بالدهن وهي أيضاً باء الحال وقرأ زر بن حبيش «تُنبِت» بضم التاء وكسر الباء «الدهن» بحذف الباء ونصبه وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب «بالدهان» بالألف والمراد في هذه الآية تعديد نعمة الزيت على الإنسان وهي من أركان النعم التي لا غنى بالصحة عنها ويدخل في معنى الزيتونة شجر الزيت كله على اختلافه بحسب الأقطار وقرأت فرقة، «وصبغ»، وقرأت فرقة «وأصباغ» بالجمع، وقرأ عامر بن عبد قيس، «ومتاعاً للآكلين»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏21‏)‏ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏الأنعام‏}‏ هي الإبل والبقر والضأن والمعز و«العبرة» في خلقتها وسائر اخبارها، وقرأ الجمهور «نُسقيكم» بضم النون من أسقى، ورويت عن عاصم، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر «نَسقيكم» بفتح النون من سقى، فمن الناس من قال هما لغتان بمعنى، ومنهم من قال سقيته إذا أعطيته للشفة وأسقيته إذا جعلت له سقياً لأرض أو ثمرة ونحوه، فكأن الله تعالى جعل الأنعام لعبيده سقياً يشربون وينتجعون، وقرأ أبو جعفر «تسقيكم» بالتاء من فوق أَي تسقيكم الأنعام، و«المنافع» الحمل عليها وجلودها وأصوافها وأوبارها وغير ذلك مما يطول عده، و‏{‏الفلك‏}‏، السفن واحدها فلك الحركات في الواحد كحركات قفل والحركات في الجمع كحركات أسد وكتب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 26‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ‏(‏25‏)‏ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

هذا ابتداء تمثيل لكفار قريش بأمم كفرت بأنبيائها فأهلكوا، ففي ضمن ذلك الوعيد بأن يحل بهؤلاء نحو ما حل بأولئك، و«نوح» عليه السلام أول نبي أرسل إلى الناس وإدريس أول من نبيّ ولم يرسل، و‏{‏الملأ‏}‏ الأشراف لأنهم عنهم يصدر الملأ وهو جمع القوم، وفي قوله ‏{‏هؤلاء‏}‏ استبعاد بعثة البشر وهم قوم مقرون بالملائكة وذلك لا شك متقرر عندهم من بقايا نبوءة آدم وإدريس وغيرهما‏.‏ ولم يكن عن علم صحيح ولا معرفة بأخبار نبوءة والجنة جنون، ‏{‏فتربصوا‏}‏ معناه فاصبروا وانتظروا هلاكه، و‏{‏حتى حين‏}‏ معناه إلى وقت ولم يعينوه وإنما أرادوا إلى وقت يريحكم القدر منه، ثم إن نوحاً عليه السلام دعا على قومه حين يئس منهم وإن كان دعاؤه في هذه الآية ليس بنص وإنما هو ظاهر من قوله ‏{‏بما كذبون‏}‏ فهذا يقتضي طلبه العقوبة وأما النصرة بمجردها فكانت تكون بردهم إلى الإيمان، وقرأ أبو جعفر وابن محيصن «ربُّ انصرني» برفع الباء وكذلك «ربُّ احكم» وشبهه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏

‏{‏فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ‏(‏27‏)‏ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏28‏)‏ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏29‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قد تقدم القول في صفة السفينة وقدرها في سورة هود، و‏{‏الفلك‏}‏ هنا مفرد لا جمع، وقوله تعالى ‏{‏بأعيننا‏}‏ عبارة عن الإدراك، هذا مذهب الحذاق، ووقفت الشريعة على أعين وعين ولا يجوز أن يقال عينان من حيث لم توقف الشريعة على التثنية و‏{‏وحينا‏}‏ معناه في كيفية العمل ووجه البيان، وذلك أن جبريل عليه السلام نزل إلى نوح فقال له اصنع كذا وكذا لجميع حكم السفينة وما تحتاج إليه واستجن الكفار نوحاً لادعائه النبوءة بزعمهم أنها دعوى وسخروا منه لعمله السفينة على غير مجرى، ولكونها أَول سفينة إن صح ذلك، وقوله ‏{‏أمرنا‏}‏، يحتمل أن يكون مصدراً بمعنى أَن نأمر الماء بالفيض ويحتمل أن يريد واحد الأمور أي هلاكنا للكفرة، وقد تقدم القول في معنى قوله ‏{‏وفار التنور‏}‏ والصحيح من الأقوال فيه أنه تنور الخبز وأَنها أمارة كانت بين الله تعالى وبين نوح عليه السلام وقوله ‏{‏فاسلك‏}‏ معناه فادخل ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

حتى سلكن الشوى منهن في مسلك *** من نسل جوابة الآفاق مهداج

وقول الآخر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

وكنت لزاز خصمك لم أعرد *** وقد سلكوك في يوم عصيب

يقال سلك وأسلك بمعنى، وقرأ حفص «من كلٍّ» بتنوين «كلٍّ»، وقرأ الباقون وأَبو بكر عن عاصم بإضافة «كلِّ» دون تنوين و«الزوجان» كل ما شأنه الاصطحاب من كل شيء كالذكر والأنثى من الحيوان ونحو النعال وغيرها كل واحد زوج للآخر هذا موقع اللفظة في اللغة، والعدديون يوقعون الزوج على الاثنين وعلى هذا أمر استعمال العامة للزوج، وقوله ‏{‏وأهلك‏}‏ يريد قرابته ثم استثنى ‏{‏من سبق عليه القول‏}‏ بأنه كافر وهو ابنه وأمرأته، ثم أمر نوح عليه السلام أَن لا يراجع ربه ولا يخاطبه شافعاً في أَحد من الظالمين، والإشارة إلى من استثنى إذ العرف من البشر الحنو على الأهل، ثم أمره تعالى بأَن يحمد ربه على النجاة من الظلمة عن استوائه وتمكنه في الفلك، ثم أمر بالدعاء في بركة المنزل، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «مَنزِلاً» بفتح الميم وكسر الزاي وهو موضع النزول، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم «مُنزَلاً» وهو مصدر بمعنى الإنزال بضم الميم وفتح الزاي، ويجوز أَن يراد موضع النزول وقوله ‏{‏إن في ذلك لآيات‏}‏، خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم أي أَن فيما جرى على هذه الأمم لعبراً ودلائل لمن له نظر وعقل، ثم أخبر أَنه تعالى يبتلي عباده الزمن بعد الزمن على جهة الوعيد لكفار قريش بهذا الإخبار، و‏{‏إن‏}‏ عند سيبويه هي المخففة من الثقيلة واللام لام تأكيد، والفراء يقول ‏{‏إن‏}‏ نافية واللام بمعنى إلا و‏{‏لمبتلين‏}‏ معناه لمصيبين ببلاء ومختبرين اختباراً يؤدي إلى ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 34‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ‏(‏31‏)‏ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏32‏)‏ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قال الطبري رحمه الله‏:‏ ان هذا «القرن» هم ثمود و«رسولهم» صالح‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي جل الروايات ما يقتضي أن قوم عاد أقدم إلا أَنهم لم يهلكوا بصيحة، وفي هذا احتمالات كثيرة والله أعلم، ‏{‏وأترفناهم‏}‏ معناه نعمناهم وبسطنا لهم الآمال والأرزاق، ومقالة هؤلاء أيضاً تقتضي استبعاد بعثة البشر وهذه طائفة وقوم نوح لم يذكر في هذه الآيات أن المعجزة ظهرت لهم وأَنهم كذبوا بعد وضوحها ولكن مقدر معلوم وإن لم تعين لنا المعجزة والعقاب لا يتعلق بأحد إلا بعد تركه الواجب عليه، ووجوب الاتباع إنما هو بعد قيام الحجة على المرء أو على من هو المقصد، والجمهور كالعرب في معجزة القرآن والأطباء لعيسى، والسحرة لموسى، فبقيام الحجة على هؤلاء قامت على جميع من وراءهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 39‏]‏

‏{‏أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ‏(‏35‏)‏ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ‏(‏36‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ‏(‏37‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏38‏)‏ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏أيعدكم‏}‏ استفهام بمعنى التوقيف على جهة الاستبعاد وبمعنى الهزء بهذا الوعد‏.‏

و ‏{‏أنكم‏}‏ الثانية بدل من الأولى عند سيبويه وفيه معنى تأكيد الأولى وكررت لطول الكلام، وكأن المبرد أبى عبارة البدل لكونه من غير مستقل اذا لم يذكر خبر «أن» الأولى والخبر عن سيبويه محذوف تقديره أنكم تبعثون إذا متم، وهذا المقدر هو العامل في ‏{‏إذا‏}‏ وفي قراءة عبدالله بن مسعود «أيعدكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون» بحذف ‏{‏أنكم‏}‏ الأولى، ويعنون بالإخراج النشور من القبور، وقوله ‏{‏هيهات هيهات‏}‏ استبعاد، وهذه كلمة لها معنى الفعل، التقدير بعد كذا، فطوراً تلي الفاعل دون لام تقول هيهات مجيء زيد أَي بعد ذلك، ومنه قول جرير‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فأيهات أيهات العقيق ومن به *** وأيهات خل بالعقيق نواصله

وأحياناً يكون الفاعل محذوفاً وذلك عند اللام كهذه الآية، التقدير بعد الوجود لما توعدون، ومن حيث كانت هذه اللفظة بمعنى الفعل أشبهت الحروف مثل صه وغيرها، فلذلك بنيت على الفتح، وهذه قراءة الجماعة بفتح التاء وهي مفرد سمي به الفعل في الخبر، أي بعد، كما أَن شتان اسم افترق وعرف تسمية الفعل أَن يكون في الأمر كصه وحسن، وقرأ أبو جعفرٍ «هيهاتِ هيهاتِ» بكسر التاء غير منونة، وقرأها عيسى بن عمر وأَبو حيوة بخلاف عنه «هيهاتٍ هيهاتٍ» بتاء مكسورة منونة وهي على هاتين القراءتين عند سيبويه جمع «هيهات» وكان حقها أَن تكون «هيهاتي» إلا أن ضعفها لم يقتض إظهار الياء فقال سيبويه رحمه الله هي مثل بيضات أَراد في أَنها جمع فظن بعض النحاة أَنه أَراد في اتفاق المفرد فقال واحد «هيهات» هيهة وليس كما قال، وتنوين عيسى على إرادة التنكير وترك التعريف، وقرأ عيسى الهمداني «هيهاتْ» بتاء ساكنة وهي على هذا الجماعة لا مفرد، وقرأها كذلك الأعرج، ورويت عن أَبي عمرو وقرأ أبو حيوة «هيهاتٌ» بتاء مرفوعة منونة وهذا على أَنه اسم معرب مستقل وخبره ‏{‏توعدون‏}‏ أي البعد لوعدكم، كما تقول النجح لسعيكم، وروي عن أَبي حيوة «هيهاتُ» بالرفع دون تنوين، وقرأ خالد بن إلياس «هيهاتاً هيهاتاً» بالنصب والتنوين والوقف على «هيهات» من حيث هي مبنية بالهاء، ومن قرأ بكسر التاء وقف بالتاء، وفي اللفظة لغات «هيها وهيهات وهيهان وأيهات وهيهات وهيهاتاً وهيهاء» قال رؤبة، «هيهاه» من منخرق «هيهاوه»، وقرأ ابن أَبي عبلة «هيهات هيهات ما توعدون» بغير لام، وقولهم ‏{‏إن هي إلا حياتنا الدنيا‏}‏ أرادوا أنه لا وجود لنا غير هذا الوجود، وإنما تموت منا طائفة فتذهب وتجيء طائفة جديدة، وهذا كفر الدهرية، و‏{‏بمؤمنين‏}‏ معناه بمصدقين، ثم دعا عليهم نبيهم وطلب عقوبتهم على تكذيبهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 44‏]‏

‏{‏قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ‏(‏40‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏41‏)‏ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ ‏(‏42‏)‏ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ‏(‏43‏)‏ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

المعنى ‏{‏قال‏}‏ الله لهذا النبي الداعي ‏{‏عما قليل‏}‏ يندم قومك على كفرهم حين لا ينفعهم الندم، ومن ذكر ‏{‏الصيحة‏}‏ ذهب الطبري إلى أَنهم قوم ثمود، وقوله ‏{‏بالحق‏}‏ معناه بما استحقوا من أَفعالهم وبما حق منا في عقوبتهم، و«الغثاء» ما يحمله السيل من زبده ومعتاده الذي لا ينتفع به فيشبه كل هامد وتالف بذلك و‏{‏بعداً‏}‏ منصوب بفعل مضمر متروك إظهاره ثم أخبر تعالى عن أنه «أنشأ» بعد هؤلاء أمماً كثيرة كل أمة بأجل في كتاب لا تتعداه في وجودها وعند موتها و‏{‏تترا‏}‏ مصدر بمنزلة فعلى مثل الدعوى والعدوى ونحوها، وليس تترى بفعل وإنما هو مصدر من تواتر الشيء، وقرأ الجمهور «تترا» كما تقدم ووقفهم بالألف، وحمزة والكسائي يميلانها، قال أبو حاتم هي ألف تأنيث، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «تتراً» بالتنوين ووقفهما بالألف وهي ألف إلحاق قال ابن سيده يقال جاءو «تَتْراً وتِتْراً» أي متواترين التاء مبدلة من الواو على غير قياس لأن قياس إبدال الواو تاء إنما هو في افتعل وذلك نحو اترز واتجه، وقوله ‏{‏أتبعنا بعضهم بعضاً‏}‏ أي في الإهلاك، وقوله ‏{‏وجعلناهم احاديث‏}‏ يريد أحاديث مثل، وقلَّما يستعمل الجعل حديثاً إلا في الشر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 48‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏45‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ‏(‏46‏)‏ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ‏(‏47‏)‏ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏ثم‏}‏ هنا على بابها لترتيب الأمور واقتضاء المهلة، و«الآيات» التي جاء بها ‏{‏موسى‏}‏ و‏{‏هارون‏}‏ هي اليد والعصا اللتان اقترن بهما التحدي وهما «السلطان المبين»، ويدخل في عموم اللفظ سائر آياتهما كالبحر والمرسلات الست، وأما غير ذلك مما جرى بعد الخروج من البحر فليست تلك لفرعون بل هي خاصة ببني إسرائيل‏.‏ و«الملأ» هنا الجمع يعم الأشراف وغيرهم، و‏{‏استكبروا‏}‏، معناه عن الإيمان بموسى وأخيه لأَنهم أنفوا من ذلك، و‏{‏عالين‏}‏، معناه قاصدين للعلو بالظلم والكبرياء، وقوله ‏{‏عابدون‏}‏ معناه خامدون متذللون، ومن هنا قيل لعرب الحيرة العباد لأَنهم دخلوا من بين العرب في طاعة كسرى، هذا أَحد القولين في تسميتهم والطريق المعبد المذلل وعلو هؤلاء هو الذي ذكر الله تعالى في قوله ‏{‏تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 83‏]‏ و‏{‏من المهلكين‏}‏ يريد بالغرق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 51‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏49‏)‏ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ‏(‏50‏)‏ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏الكتاب‏}‏ التوراة، و‏{‏لعلهم‏}‏ يريد بني إسرائيل لأن التوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون والقبط، والترجي في «لعل» في جيز البشر أَي كان من فعلنا معهم ما يرجو معه ابن آدم إيمانهم وهداهم والقضاء قد حتم بما حتم، و‏{‏ابن مريم‏}‏، عيسى عليه السلام وقصتهما كلها آية عظمى بمجموعها وهي آيات مع التفصيل وأخذها من كلا الوجهين متمكن، و«آوى» معناه ضم واستعمل اللفظة في الأماكن أي أقررناهما، و«الربوة» المرتفع من الأرض، وقرأ جمهور الناس «رُبوة» بضم الراء، وقرأ عاصم وابن عامر بفتحها وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن، وقرأ ابن عباس ونصر عن عاصم بكسرها، وقرأ محمد بن إسحاق «رُباوة» بضم الراء، وقرأ الأشهب العقيلي بفتحها، وقرأت فرقة بكسرها وكلها لغات قرئ بها، و«القرار»، التمكن فمعنى هذا أَنها مستوية بسيطة للحرث والغراسة قاله ابن عباس، وقال قتادة «القرار» هنا الحبوب والثمار، ومعنى الآية أنها من البقاع التي كملت خصالها فهي أَهل أَن يستقر فيها وقد يمكن أَن يستقر على الكمال في البقاع التي ماؤها آبار فبين بعد أَن ماء هذه الربوة يرى معيناً جارياً على وجه الأرض قاله ابن عباس وهذا كمال الكمال، و«المعين»، الظاهر الجري للعين فالميم زائدة وهو الذي يعاين جريه لا كالبئر ونحوه، وكذلك أدخل الخليل وغيره هذه اللفظة في باب‏.‏ ع، ي، ن، وقد يحتمل أن تكون من قولهم معن الماء إذا كثر، ومنه قولهم المعن المعروف والجود، فالميم فاء الفعل، وأنشد الطبري على هذا قول عبيد بن الأبرص‏:‏

واهية أو معين ممعن *** وهضبة دونها لهوب

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يرحم الله هاجر لو تركت زمزم لكانت عيناً معيناً»، وهذا يحتمل الوجهين، وهذه الربوة هي الموضع الذي فرت إليه مريم حين استحيت في قصة عيسى عليه السلام وهو الذي قيل لها فيه ‏{‏قد جعل ربك تحتك سريا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 24‏]‏ هذا قول بعض المفسرين واختلف الناس في موضع الربوة فقال‏:‏ ابن المسيب سعيد‏:‏ هي الغوطة بدمشق وهذا أشهر الأقوال لأن صفة الغوطة أنها ‏{‏ذات قرار ومعين‏}‏ على الكمال، وقال أبو هريرة هي الرملة من فلسطين وأسنده الطبري عن كريب البهزي عن النبي عليه السلام، ويعارض هذا القول أن الرملة ليس يجري بها ماء البتة وذكره الطبري وضعف القول به، وقال كعب الأحبار «الربوة» بيت المقدس وزعم أن في التوراة أن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء وأنه يزيد على أَعلى الأرض ثمانية عشر ميلاً‏.‏

ع ويترجح أن «الربوة» بيت لحم من بيت المقدس لأن ولادة عيسى هنالك كانت، وحينئذ كان الإيواء، وقال ابن زيد «الربوة» بأرض مصر وذلك أنها رُبا يجيء فيض النيل إليها فيملأ الأرض ولا ينال تلك الربا وفيها القرى وبها نجاتها ع ويضعف هذا القول أنه لم يرو أَن عيسى عليه السلام ومريم كاناً بمصر ولا حفظت لهما بهما وقوله ‏{‏يا أيها الرسل‏}‏، يحتمل أن يكون معناه وقلنا يا أيها الرسل فتكون هذه بعض القصص التي ذكر وكيفما حول المعنى فلم يخاطبوا قط مجتمعين، وإنما خوطب كل واحد في عصره، وقالت فرقة‏:‏ الخطاب بقوله ‏{‏يا أيها الرسل‏}‏ لمحمد عليه السلام، ثم اختلفت فقال بعضها‏:‏ أقامه مقام الرسل كما قال‏:‏ الذين قال لهم الناس، وقيل غير هذا مما لا يثبت مع النظر، والوجه في هذا أن يكون الخطاب لمحمد وخرج بهذه الصيغة ليفهم وجيزاً أن هذه المقالة قد خوطب بها كل نبي أو هي طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها وهذا كما تقول لتاجر يا تجار ينبغي أن تجتنبوا الربا فأنت تخاطبه بالمعنى، وقد اقترن بذلك أَن هذه المقالة تصلح لجميع صنفه، وقال الطبري‏:‏ الخطاب بقوله ‏{‏يا أيها الرسل‏}‏ لعيسى، وروي أنه كان يأكل من غزل أمه، والمشهور عنه أَنه كان يأكل من بقل البرية، ووجه خطابه لعيسى ما ذكرناه من تقدير لمحمد صلى الله عليه وسلم، و‏{‏الطيبات‏}‏ هنا الحلال ملذة وغير ذلك، وفي قوله ‏{‏إني بما تعلمون عليم‏}‏ تنبيه ما على التحفظ وضرب من الوعيد بالمباحثة صلى الله على جميع رسله وأنبيائه وإذا كان هذا معهم فما ظن كل الناس بأنفسهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 56‏]‏

‏{‏وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ‏(‏52‏)‏ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏(‏53‏)‏ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏54‏)‏ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ‏(‏55‏)‏ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قرأ عاصم وحمزة والكسائي «وإنّ» بكسر الألف وشد النون، وقرأ ابن عامر و«أن» بفتح الألف وتخفيف «أن» وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «وأنّ هذه» بفتح الألف وتشديد «أنّ»، فالقراءة الأولى بينة على القطع، وأما فتح الألف وتشديد النون فمذهب سيبويه أنها متعلقة بقوله، آخراً ‏{‏فاتقون‏}‏ على تقدير ولأن، أي فاتقون لأن ‏{‏أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون‏}‏ وهذا عنده نحو قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 18‏]‏‏.‏ و«أن» عنده في موضع خفض وهي عند الخليل في موضع نصب لما زال الخافض، وقد عكس هذا الذي نسبت إليهما بعض الناس، وقال الفراء «أن» متعلقة بفعل مضمر تقديره واعملوا واحفظوا، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق «أمةٌ واحدةٌ» بالرفع على البدل، وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو «أمة واحدةً» بالنصب على الحال وقيل على البدل من ‏{‏هذه‏}‏ وفي هذا نظر، وهذه الآية تقوي أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسل‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏، إنما هو مخاطبة لجميعهم وأنه بتقرير حضورهم وتجيء هذه الآية بعد ذلك بتقدير وقلنا للناس، وإذا قدرت ‏{‏أيها الرسل‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏ مخاطبة لمحمد عليه السلام قلق اتصال هذه واتصال قوله ‏{‏فتقطعوا‏}‏، أما أن قوله ‏{‏وأنا ربكم فاتقون‏}‏ وإن كان قيل للأنبياء فأممهم داخلون بالمعنى فيحسن بعد ذلك اتصال ‏{‏فتقطعوا‏}‏، ومعنى «الأمة» هنا الملة والشريعة والإشارة بهذه إلى الحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليه السلام وهو دين الإسلام، وقوله ‏{‏فتقطعوا‏}‏ يريد الأمم أي افترقوا وليس بفعل مطاوع كما تقول تقطع الثوب بل هو فعل متعد بمعنى قطعوا ومثاله تجهمني الليل وتخوفني السير وتعرقني الزمن، وقرأ نافع «زُبراً» بضم الزاي جمع زبور، وقرأ الأعمش وأبو عمرو بخلاف «زُبَراً» بضم الزاي وفتح الباء، فأما القراءة الأولى فتحتمل معنيين احدهما أَن الأمم تنازعت أمرها كتباً منزلة فاتبعت فرقة الصحف وفرقة التوارة وفرقة الزبور وفرقة الإنجيل ثم حرف الكل وبدل، وهذا قول قتادة، والثاني أنهم تنازعوا أمرهم كتباً وضعوها وضلالات ألفوها وهذا قول ابن زيد، وأما القراءة الثانية فمعناها فرقاً كزبر الحديد، ثم ذكر تعالى أن كل فريق منهم معجب برأيه وضلالته وهذه غاية الضلال لأن المرتاب بما عنده ينظر في طلب الحق ومن حيث كان ذكر الأمم في هذه الآية مثالاً لقريش خاطب محمداً عليه السلام في شأنهم متصلاً بقوله ‏{‏فذرهم‏}‏ أي فذر هؤلاء الذين هم بمنزلة من تقدم و«الغمرة»، ما عمهم من ضلالهم وفعل بهم فعل الماء الغمر لما حصل فيهم، وقرأ عبد الرحمن «في غمراتهم»، و‏{‏حتى حين‏}‏ أي إلى وقت فتح فيهم غير محدود وفي هذه الآية موادعة منسوخة بآية السيف، ثم وقفهم على خطأ رأيهم في أَن نعمة الله عندهم بالمال ونحوه إنما هي لرضاه عن حالهم وبين تعالى أن ذلك إنما هو إملاء واستدراج، وخبر «أن» في قوله ‏{‏نسارع‏}‏ بنون العظمة، وفي الكلام على هذه القراءة ضمير عائد تقديره لهم به، وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة «يسارِع» بالياء من تحت وكسر الراء بمعنى أَن إمدادنا يسارع ولا ضمير مع هذه القراءة إلا ما يتضمن الفعل، وروي عن أَبي بكرة المذكور «يسارَع» بفتح الراء، وقرأ الحر النحوي «نسرع» بالنون وسقوط الألف، و‏{‏الخيرات‏}‏ هنا يعم الدنيا، وقوله ‏{‏بل لا يشعرون‏}‏ وعيد وتهديد، والشعور مأخوذ من الشعار وهو ما يلي الإنسان من ثيابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 61‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏58‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ‏(‏59‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ‏(‏60‏)‏ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

لما فرغ ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك ذكر المؤمنين ووعدهم وذكرهم بأبلغ صفاتهم، و«الإشفاق» أبلغ التوقع والخوف، و‏{‏من‏}‏، في قوله ‏{‏من خشية‏}‏ هي لبيان جنس الإشفاق، والإشفاق إنما هو من عذا ب الله، و‏{‏من‏}‏، في قوله ‏{‏من عذاب‏}‏ هي لابتداء غاية و«الآيات» تعم القرآن وتعم العبر والمصنوعات التي لله وغير ذلك مما فيه نظر واعتبار وفي كل شيء له آية، ثم ذكرهم تعالى من الطرف الآخر وهو نفي الإشراك لأن لكفار قريش أن يقولوا ونحن نؤمن بآيات ربنا ويريدون نصدق بأنه المخترع الخالق فذكر تعالى نفي الإشراك الذي لا حظ لهم فيه بسبب أصنامهم، وقوله ‏{‏والذين يؤتون ما آتوا‏}‏ على قراءة الجمهور، يعطون ما أعطوا وقال الطبري‏:‏ يريد الزكاة المفروضة وسائر الصدقة، وروي نحوه عن ابن عمر ومجاهد ع وإنما ضمهم إلى هذا التخصيص أن العطاء مستعمل في المال على الأغلب، قال ابن عباس وابن جبير‏:‏ هو عام في جميع أعمال البر، وهذا أحسن كأنه قال‏:‏ والذين يعطون من أنفسهم في طاعة الله ما بلغه جهدهم، وقرأت عائشة أم المؤمنين وابن عباس وقتادة والأعمش «يأتون ما أتوا» ومعناه يفعلون ما فعلوا ورويت هذه القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذهبت فرقة إلى أن معناه من المعاصي، وذهبت فرقة إلى أن ذلك في جميع الأعمال طاعتها ومعصيتها وهذا أمدح، وأسند الطبري عن عائشة أنها قالت يا رسول الله قوله تعالى ‏{‏يؤتون ما آتوا‏}‏ هي في الذي يزني ويسرق قال «لا يا بنت أبي بكر بل هي في الرجل يصوم ويتصدق وقلبه وجل يخاف أن لا يتقبل منه»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا نظر مع الحديث، و«الوجل» نحو الإشفاق والخوف وصورة هذا الوجل أما المخلط فينبغي أن يكون أبداً تحت خوف من أن يكون ينفذ عليه الوعيد بتخليطه، وأما التقي والتائب فخوفه أمر الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموت، وفي قوله تعالى ‏{‏أنهم إلى ربهم راجعون‏}‏ تنبيه على الخاتمة، وقال الحسن‏:‏ معناه الذين يفعلون ما يفعلون من البر ويخافون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب ربهم ع وهذه عبارة حسنة، وروي عن الحسن أيضاً أنه قال‏:‏ المؤمن يجمع إحساناً وشفقة والمنافق يجمع إساءة وأمناً، وقرأ الجمهور «أنهم» بفتح الألف والتقدير بأنهم أو لأنهم أو من أجل أنهم ويحتمل أن يكون قوله ‏{‏وجلة‏}‏ عاملة في «أن» من حيث إنها بمعنى خائفة‏.‏

وقرأ الأعمش «إنهم» بالكسر على إخبار مقطوع في ضمنه تخويف، ثم أخبر تعالى عنهم بأنهم يبادرون إلى فعل الخيرات، وقرأ الجمهور «يسارعون» وقرأ الحر النحوي «يسرعون وأنهم إليها سابقون»، وهذا قول بعضهم في قوله لها، وقالت فرقة‏:‏ معناه وهم من أجلها سابقون، فالسابق على هذا التأويل هو إلى رضوان الله تعالى وعلى الأول هو إلى الخيرات، وقال الطبري عن ابن عباس‏:‏ المعنى سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها ورجحه الطبري بأن اللام متمكنة في المعنى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏62‏)‏ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ‏(‏63‏)‏ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا نكلف نفساً إلا وسعها‏}‏ نسخ لجميع ما ورد في الشرع من تكليف ما لا يطاق على الحقيقة، وتكليف ما لا يطاق أربعة أقسام، ثلاثة حقيقة ورابع مجازي وهو الذي لا يطاق للاشتغال بغيره مثل الإيمان للكافر والطاعة للعاصي وهذا تكليف باق وهو تكليف أكثر الشريعة، وأما الثلاثة فورد الإثنان منها وفيها وقع النسخ المحال عقلاً في نازلة أبي لهب والمحال عادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تبدوا ما في أنفسكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏، والثالث لم يرد فيه شيء وهو النوع المهلك لأن الله تعالى لم يكلفه عباده، فأما قتل القاتل ورجم الزاني فعقوبته بما فعل وقد مضى القول مستوعباً موجزاً في مسألة تكليف ما لا يطاق في سورة البقرة وفي قولنا ناسخ نظر من جهة التواريخ، وما نزل بالمدينة وما نزل بمكة والله المعين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولدينا كتاب‏}‏ أظهر ما قيل فيه أنه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة، وفي الآية على هذا التأويل تهديد وتأنيس من الحيف والظلم، وقالت فرقة الإشارة بقوله ‏{‏ولدينا كتاب‏}‏ إلى القرآن‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وهذا يحتمل والأول أظهر، وقوله ‏{‏في غمرة‏}‏ يريد في ضلال قد غمرها كما يفعل الماء الغمر بما حصل فيه، وقوله ‏{‏من هذا‏}‏، يحتمل أن يشير إلى القرآن، ويحتمل أن يشير إلى كتاب الإحصاء، ويحتمل أن يشير إلى الأَعمال الصالحة المذكورة قبل، أي هم في غمرة من اطراحها وتركها ويحتمل أن يشير إلى الدين بجملته أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وكل تأويل من هذه قالته فرقة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولهم أعمال من دون ذلك‏}‏ الإشارة بذلك إلى الغمرة والضلال المحيط فمعنى الآية بل هم ضالون معرضون عن الحق ولهم مع ذلك سعايات فساد فوسمهم تعالى بحالتي شر، قال هذا المعنى قتادة وأبو العالية، وعلى هذا التأويل فالإخبار عما سلف من أعمالهم وعماهم فيه، وقالت فرقة الإشارة بذلك إلى قوله‏:‏ ‏{‏من هذا‏}‏ فكأنه قال‏:‏ لهم أعمال من دون الحق، وقال الحسن بن أبي الحسن ومجاهد‏:‏ إنما أخبر بقوله ‏{‏ولهم أعمال‏}‏ عما يستأنف من أعمالهم أي أنهم لهم أعمال من الفساد يستعملونها، و‏{‏حتى‏}‏ حرف ابتداء لا غير، و‏{‏إذا‏}‏ والثانية التي هي جواب تمنعان من أن تكون ‏{‏حتى‏}‏ غاية ل ‏{‏عاملون‏}‏، و«المترف» هو المنعم في الدنيا الذي هو منها في سرف وهذه حال شائعة في رؤساء الكفرة من كل أمة و‏{‏يجأرون‏}‏ معناه يستغيثون بصياح كصياح البقر وكثر استعمال الجؤار في البشر ومنه قول الأعشى‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

يراوح من صلوات المليك *** فطوراً سجوداً وطوراً جؤارا

وذهب مجاهد وغيره إلى أن هذا العذاب المذكور وهو الوعيد بيوم بدر وفيه نفذ على ‏{‏مترفيهم‏}‏ والضمير في قوله ‏{‏إذا هم‏}‏ يحتمل أن يعود على «المترفين» فقط لأنهم صاحوا حين نزل بهم الهزم والقتل يوم بدر، ويحتمل أن يعود على الباقين بعد المعذبين وقد حكى ذلك الطبري عن ابن جريح قال‏:‏ المعذبون قتلى بدر والذين ‏{‏يجأرون‏}‏ قتلى مكة لأنهم ناحوا واستغاثوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 68‏]‏

‏{‏لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏65‏)‏ قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ‏(‏66‏)‏ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ‏(‏67‏)‏ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

المعنى يقال لهم يوم العذاب وعند حلوله ‏{‏لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون‏}‏ وهذا القول يجوز أن يكون حقيقة، أي تقول ذلك لهم الملائكة ويحتمل أن يكون مجازاً أي لسان الحال يقول ذلك، وهذا على أن الذين يجأرون هم المعذبون، وأما على قول ابن جريح فلا يحتمل أن تقول ذلك الملائكة، وقوله ‏{‏قد كانت آياتي تتلى عليكم‏}‏ يريد بها القرآن، و‏{‏تنكصون‏}‏ معناه ترجعون وراءكم وهذه استعارة للإعراض والإدبار على الحق، وقرأ علي بن أبي طالب «على أدباركم تنكُصون» بضم الكاف وبذكر الإدبار بدل أعقاب، و‏{‏مستكبرين‏}‏ حال، والضمير في ‏{‏به‏}‏ قال الجمهور‏:‏ هو عائد على الحرم والمسجد وإن لم يتقدم له ذكر لشهرته في الأمر، والمعنى أنكم تعتقدون في نفوسكم أن لكم بالمسجد والحرم أعظم الحقوق على الناس والمنازل عند الله فأنتم تستكبرون لذلك وليس الاستكبار من الحق، وقالت فرقة‏:‏ الضمير عائد على القرآن من حيث ذكر الآيات والمعنى يحدث لكم سماع آياتي كبراً وطغياناً‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وهذا قول جيد وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو متعلق بما بعده كأن الكلام ثم في قوله ‏{‏مستكبرين‏}‏ ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏سامراً تهجرون‏}‏، وقوله ‏{‏سامراً‏}‏ حال وهو مفرد بمعنى الجمع يقال قوم سمر وسمر وسامر ومعناه سهر الليل مأخوذ من السمر وهو ما يقع على الأشخاص من ضوء القمر فكانت العرب تجلس للسمر تتحدث وهذا أوجب معرفتها بالنجوم لأنها تجلس في الصحراء فترى الطوالع من الغوارب، وقرأ الجمهور «سامراً» وقرأ أبو رجاء «سماراً»، وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن محيصن «سمراً» ومن هذه اللفظة قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

من دونهم إن جئتهم سمراً *** عزف القيان ومجلس غمر

فكانت قريش سمر حول الكعبة مجالس في أباطيلها وكفرها، وقرأ الجمهور «تَهجُرون» بفتح التاء وضم الجيم واختلف المتأولون في معناها فقال ابن عباس‏:‏ معناها تهجرون الحق وذكر الله وتقطعونه من الهجر المعروف، وقال ابن زيد‏:‏ من هجر المريض إذا هذى أي تقولون اللغو من القول وقاله أبو حاتم، وقرأ نافع وحده من السبعة «تهجِرون» بضم التاء وكسر الجيم وهي قراءة أهل المدينة وابن محيصن وابن عباس أيضاً ومعناه يقولون الفحش والهجر والعضاية من القول وهذه إشارة إلى سبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاله ابن عباس أيضاً وغيره، وفي الحديث «كنت نهيتكم عن زيادة القبور فزوروها ولا تقولوا هجراً»، وقرأ ابن محيصن وابن أبي نهيك «تُهَجِّرون» بضم التاء وفتح الهاء وشد الجيم مكسورة وهو تضعيف هجر وتكثير الهجر والهجر على المعنيين المتقدمين، وقال ابن جني‏:‏ لو قيل إن المعنى أنكم تبالغون في المهاجرة حتى أنكم وإن كنتم سمراً بالليل فكأنكم تهجرون في الهاجرة على غاية الافتضاح لكان وجهاً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا تكون هذه القراءة تكثير «تُهجِّرون» بضم التاء، وكسر الجيم لأن أفعل لا يتعدى ولا يكثر بتضعيف إذ التضعيف والهمزة متعاقبان ثم وبخهم على إعراضهم بعد تدبر القول لأنهم بعد التدبر والنظر الفاسد، قال بعضهم شعر وبعضهم سحر وسائر ذلك، وقوله ‏{‏أم جاءهم‏}‏ كذلك توبيخ أيضاً والمعنى أأبدع لهم أمر لم يكن في الناس قبلهم بل قد جاء الرسل قبل كنوح وإبراهيم وإسماعيل وفي هذا التأويل من التجوز أن جعل سالف الأمم «آباء» إذ الناس في الجملة آخرهم من أولهم، ويحتمل اللفظ معنى آخر على أن يراد ب ‏{‏آباءهم الأولين‏}‏ من فرط من سلفهم في العرب فكأنه قال‏:‏ أفلم يدبروا القول أم جاءهم أمر غريب من عند الله لم يأت ‏{‏آباءهم‏}‏ فبهر عقولهم ونبت أذهانهم عن أمر من أمور الله غريب في سلفهم والمعنى الأول أبين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 71‏]‏

‏{‏أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏69‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ‏(‏70‏)‏ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

هذا أيضاً توبيخ والمعنى ألم يعرفوه صادقاً مدة عمره ولم يقع منهم قط إنكار لمعرفة وجه محمد صلى الله عليه وسلم وإنما أنكروا صدقه، وقوله ‏{‏أم يقولون به جنة‏}‏ توبيخ أيضاً لأن الفرق بين الحكمة وفصل الخطاب الذي جاء به وبين كلام ذي الجنة لا يخفى على ذي فطرة، ثم بين تعالى حاله عليه السلام في مجيئه بالحق، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو اتبع الحق أهواءهم‏}‏ قال ابن جريج وأبو صالح ‏{‏الحق‏}‏ الله تعالى ع وهذا ليس من نمط الآية، وقال غيرهما ‏{‏الحق‏}‏ هنا الصواب والمستقيم ع وهذا هو الأجرى على أن يكون المذكور قبل الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ويستقيم على هذا الفساد، ‏{‏السماوات والأرض ومن فيهن‏}‏ لو كان بحكم هوى هؤلاء، وذلك أنهم جعلوا لله شركاء وأولاداً ولو كان هذا حقاً لم تكن لله الصفات العالية، ولو لم تكن له لم تكن الصنعة والقدرة كما هي، وكان فساد ‏{‏السماوات والأرض ومن فيهن‏}‏، ومن قال إن ‏{‏الحق‏}‏ في الآية الله تعالى بشعت له لفظة ‏{‏اتبع‏}‏ وصعب عليه ترتيب الفساد المذكور في الآية لأن لفظة الاتباع على كلا الوجهين إنما هي استعارة بمعنى أن تكون أهواؤهم يصوبها الحق ويقررها فنحن نجد الله تعالى قد قرر كفر أمم وأهواءهم فليس في ذلك فساد سماوات، وأما الحق نفسه الذي هو الصواب فلو كان طبق أهوائهم لفسد كل شيء فتأمله، وقرأ ابن وثاب «ولوُ اتبع» بضم الواو وقال أبو الفتح‏:‏ الضم في هذه الواو قليل والوجه تشبيههاً بواو الجمع كقوله ‏{‏اشتروا الضلالة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏ وقوله ‏{‏بذكرهم‏}‏ يحتمل أن يريد بوعظهم والبيان لهم قاله ابن عباس، وقرأ قتادة «نُذَكِّرهم» بنون مضمونة وذال مفتوحة وكسر الكاف مشددة ويحتمل أن يريد بشرفهم، وهو مروي، وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق «بل أتيتُهم بذكرهم» بضم تاء المتكلم، وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً «بل أتيتَهم» خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقرأ الجمهور «بل أتينهم بذكرهم» وروي عن أبي عمرو و«آتيناهم» بالمد بمعنى أعطيناهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 75‏]‏

‏{‏أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏72‏)‏ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏73‏)‏ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ‏(‏74‏)‏ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

هذا تبوبيخ لهم كأنه قال‏:‏ أم سألتهم مالاً فقلقوا بذلك واستثقلوا من أجله، وقرأ حمزة والكسائي «خراجاً فخراج» وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم «خرجاً فخراج» وقرأ ابن عامر «خرجاً فخرج» وهو المال الذي يجيء ويؤتى به لأوقات محدودة، قال الأصمعي‏:‏ الخرج الجعل مرة واحدة والخراج ما تردد لأوقات ما، ع وهذا فرق استعمالي وإلا فهما في اللغة بمعنى، وقد قرئ «خراجاً» في قصة ذي القرنين وقوله ‏{‏فخراج ربك‏}‏ يريد ثوابه سماه «خراجاً» من حيث كان معادلاً للخراج في هذا الكلام، ويحتمل أن يريد ‏{‏فخراج ربك‏}‏ رزق ربك ويؤيد هذا قوله ‏{‏وهو خير الرازقين‏}‏، و‏{‏الصراط‏}‏ المستقم، دين الإسلام و‏{‏ناكبون‏}‏ معناه عادلون ومعرضون ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لو زال عنهم القحط ومنَّ الله عليهم بالخصب ورحمهم بذلك لبقوا على كفرهم و‏{‏لجوا في طغيانهم‏}‏، وهذه الآية نزلت في المرة التي أصابت قريشاً فيها السنون المجدية والجوع الذي دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله «اللهم سبعاً كسني يوسف» الحديث‏.‏